لا يكمن خطر الإكثار من المستشارين في ارتفاع تكلفتهم المادية على المجموعة الوطنية فقط. الأمر أكثر خطورة من ذلك بكثير. في الأصل للمستش...
لا يكمن خطر الإكثار من المستشارين في ارتفاع تكلفتهم المادية على المجموعة الوطنية فقط. الأمر أكثر خطورة من ذلك بكثير.
في الأصل للمستشار، في رئاسة الجمهورية أو في رئاسة الحكومة، او للمكلف بمأمورية في ديوان هذا الوزير أو ذاك، مهمة على غاية من الأهمية... فهو العقل المدبر لمعالجة المشكلات الطارئة أو لاستشراف التوجهات العامة التي تعتزم الدولة إنجازها في سياساتها المستقبلية بفضل ما يبنيه من سيناريوهات نسميها في الغالب "نماذج قرار" modèles de décisions يضعها أمام رئيسه المباشر حتى يتخذ القرار الملائم. وتزداد أهمية عمل المستشار أو المكلف بمأمورية حين تكون الحكومة مقبلة على إصلاحات كبرى في هذا القطاع أو ذاك... لذلك يجري اختيار المستشار بالرجوع إلى علمه وخبرته الطويلة وقدرته على الاستنباط والاستشراف وتقديرا لشجاعته في التعبير عن رأيه في كل ما يُعرض عليه بقطع النظر عن رأي رئيسه وموقفه.... المستشار خبير حقيقي في مجاله ويمثل في هياكل الحكومة سلطة علمية معرفية يؤخذ برأيها بما يحمي القرار السياسي من الارتجال. فهو من هذه الناحية محصن من داء الانتماء الحزبي الرخيص ولا ولاء له إلا لعلمه وخبرته ومصلحة وطنه الفضلى ولا صوت يعلو عنده فوق صوت ضميره... وحتى ينجح في مهامه يُمنح المستشار أو المكلف بمأمورية قدرا كبيرا من "الحرية" حتى يمارس مهامه خارج الضغط السياسي وبعيدا عن اكراهات اللحظة والحسابات السياسية الضيقة وهو يدرك جيدا خصوصية مهامه وحدودها ولا يقدم نفسه بديلا عن الهياكل الإدارية ولا يتدخل مباشرة في عملها وهي لا تأتمر بأمره ... وبهذا يبني علاقته مع رئيسه في العمل والإطار الإداري على أساس الثقة والاحترام المتبادل... ندرك من ذلك أن تكلفته على المجموعة الوطنية ليست بالأهمية الكبيرة قياسا بالخدمات التي يسديها... فبفضل علمه وخبرته وتقلبه على مناصب عديدة، وبفضل علاقاته المتينة مع الأوساط المحلية والدولية والقوى الفاعلة فيها يمكن أن يوفر للدولة مليارات عديدة ويقيها من مصائب القرارات السياسية المرتجلة ويحميها من نزوات الحكام البغيضة ويجنبها مغامرات غير محسوبة المآل. كما يمكن أن يغنم المجتمع من علمه وعمله زمنا هاما كان سيخسره بسبب التجارب السخيفة (...). طبعا، للمعني بانتداب مستشارين أن يلتقطهم وينتقيهم من بين الكفاءات الموجودة في ضوء السياسات التي سيعتمدها واعتبارا لاحتيجاته الفعلية... لا يعني عددهم كثيرا ولا قيمة كبيرة للامتيازات التي سيتمتعون بها لأنها، مهما كانت قيمتها (وهي مضبوطة بالقانون ومحدودة جدا)، لا تمثل بالنسبة إلى الخبراء غنيمة مغرية ولا تعادل جهودهم المبذولة ولا تساوي ما يمكن أن تغدقه عليهم جهات اخرى للفوز بخدماتهم.
هذا في الأصل.
أما في الواقع الذي نعيشه فالأمر، على ما يبدو، مختلف تماما.
لم تعد الكفاءة العلمية والخبرة والاقتدار من الشروط التي تعتمد لانتداب المستشارين او المكلفين بمأمورية أو الملحقين بدواوين الوزراء. أعرف من بين كلفوا بمأمورية من بدأ حياته المهنية "مستشارا" لهذا الوزير أو ذاك وهو عديم الخبرة تماما وغريب تمام الغرابة عن مهام الوزارة ومشاغلها... يبدو أن فريق المستشارين أصبح هو الآخر خاضعا للمحاصصة الحزبية ولرغبة الأحزاب السياسية في أن تكون ممثلة بقوة خاصة في الوزارات التي لم تكن من حظها عند توزيع الحقائب...اصبح الولاء للحزب، وأحيانا للشخص، القاعدة رغم بعض الاستثناء وأصبح الأمر مرتبطا بانتزاع مناطق نفوذ داخل هياكل الدولة بتوظيف المستشارين لأغراض أخرى غير واضحة... يفقد بذلك رئيس الإدارة قدرا هاما من حريته في اختيار مستشاريه وتضطره المحاصصة إلى العمل معهم دون دراية حقيقية بكفاءتهم وخبرتهم ودرايتهم. هذا، ويبدو أن مسألة المستشارين وعددهم وتوزعهم كانت موضوع اتفاق بين الأحزاب بمناسبة التفاوض حول تشكيل الحكومة عملا بقاعدة "منكم أمير ومنا أمير". لا غرابة أن يكون عدد المستشارين ومن بعدهم عدد المكلفين بمأمورية وبعدهم عدد الملحقبين كبيرا... من شأن هذا الخيار أن يحول وظيفة المستشار أو المكلف بمأمورية أو الملحق عن مسارها الأصلي ليصبح "عين" حزبه أو زعيمه على الوزير وفريقه... وبدل أن ينشغل بالتفكير في المصلحة العامة ينشغل برفع التقارير اليومية إلى من كان وراء تعيينه... تنشأ عن ذلك آفات أخرى منها: التلصص، الدس، النميمة، الوشاية، اختلاق الاختلافات، تكوين الملفات، تلفيق التهم، تعطيل ملفات، تعقب العاملين، إزاحة الخصوم، صب الزيت على النار إفشاء الأسرار وغيرها من الآفات المعروفة التي تضعف الإدارة وتزيد في وهنها. هكذا يصبح الكل عدوا للكل وسيجد كل واحد منهم في الآخرين عدوا أو خصما فتنعدم الثقة بين الوزير والعاملين معه... وشيئا فشيئا يتوسع سلطانهم ويقوى نفوذهم على الإدارة بسبب تدخلهم في كل ما لا يعنيهم من جهة الأصل ويصبح الإداري مطيعا لأوامرهم خوفا من بطشهم لكونهم ينتمون إلى أحزاب نافذة وقادرة على إزاحتهم... وهكذا تصبح للقرارات مطابخ خاصة في مكاتب الأحزاب وأروقة الوزارات وتنشأ لوبيات تتناحر من أجل مزيد من السيطرة والنفوذ. في هذه المناخات، يجري تضييق الخناق على الكفاءات وبدل أن ينشغل الخبير الحق بالملفات التي أمامه سينشغل بالعيون التي تراقبه والاشاعات التي تبث من حوله.... فينخرم التوازن الداخلي وينمو التباغض على حساب الوئام. وستتحمل الإدارة أعباء هذا التنازع حول السلطة والنفوذ وتُشل إرادة العاملين فيها ويخفت حماسهم ويتعاظم خوفهم من الاجتهاد ويتزايد ارتباكهم في المساعدة على أخذ القرار ويضطرهم وضعهم إلى تنفيذ "أوامر" وهم مدركون للضرر الذي فيها... هكذا يُختزل عملهم في متابعة اليومي ومعالجة مشاكله بالوسائل المتاحة دون رؤية مستقبلية واضحة ودون دراية بمآلات الإجراءات التي يقبلون على تنفيذها وينحصر جهدهم في إيجاد الفتاوي للتحيل على الوقائع المستجدة المهددة لرتابة سير الأوضاع والمصالح التي يباشرونها محاولة منهم لإرضاء نزوات التكتلات التي يستحيل إشباعها.
أما في الواقع الذي نعيشه فالأمر، على ما يبدو، مختلف تماما.
لم تعد الكفاءة العلمية والخبرة والاقتدار من الشروط التي تعتمد لانتداب المستشارين او المكلفين بمأمورية أو الملحقين بدواوين الوزراء. أعرف من بين كلفوا بمأمورية من بدأ حياته المهنية "مستشارا" لهذا الوزير أو ذاك وهو عديم الخبرة تماما وغريب تمام الغرابة عن مهام الوزارة ومشاغلها... يبدو أن فريق المستشارين أصبح هو الآخر خاضعا للمحاصصة الحزبية ولرغبة الأحزاب السياسية في أن تكون ممثلة بقوة خاصة في الوزارات التي لم تكن من حظها عند توزيع الحقائب...اصبح الولاء للحزب، وأحيانا للشخص، القاعدة رغم بعض الاستثناء وأصبح الأمر مرتبطا بانتزاع مناطق نفوذ داخل هياكل الدولة بتوظيف المستشارين لأغراض أخرى غير واضحة... يفقد بذلك رئيس الإدارة قدرا هاما من حريته في اختيار مستشاريه وتضطره المحاصصة إلى العمل معهم دون دراية حقيقية بكفاءتهم وخبرتهم ودرايتهم. هذا، ويبدو أن مسألة المستشارين وعددهم وتوزعهم كانت موضوع اتفاق بين الأحزاب بمناسبة التفاوض حول تشكيل الحكومة عملا بقاعدة "منكم أمير ومنا أمير". لا غرابة أن يكون عدد المستشارين ومن بعدهم عدد المكلفين بمأمورية وبعدهم عدد الملحقبين كبيرا... من شأن هذا الخيار أن يحول وظيفة المستشار أو المكلف بمأمورية أو الملحق عن مسارها الأصلي ليصبح "عين" حزبه أو زعيمه على الوزير وفريقه... وبدل أن ينشغل بالتفكير في المصلحة العامة ينشغل برفع التقارير اليومية إلى من كان وراء تعيينه... تنشأ عن ذلك آفات أخرى منها: التلصص، الدس، النميمة، الوشاية، اختلاق الاختلافات، تكوين الملفات، تلفيق التهم، تعطيل ملفات، تعقب العاملين، إزاحة الخصوم، صب الزيت على النار إفشاء الأسرار وغيرها من الآفات المعروفة التي تضعف الإدارة وتزيد في وهنها. هكذا يصبح الكل عدوا للكل وسيجد كل واحد منهم في الآخرين عدوا أو خصما فتنعدم الثقة بين الوزير والعاملين معه... وشيئا فشيئا يتوسع سلطانهم ويقوى نفوذهم على الإدارة بسبب تدخلهم في كل ما لا يعنيهم من جهة الأصل ويصبح الإداري مطيعا لأوامرهم خوفا من بطشهم لكونهم ينتمون إلى أحزاب نافذة وقادرة على إزاحتهم... وهكذا تصبح للقرارات مطابخ خاصة في مكاتب الأحزاب وأروقة الوزارات وتنشأ لوبيات تتناحر من أجل مزيد من السيطرة والنفوذ. في هذه المناخات، يجري تضييق الخناق على الكفاءات وبدل أن ينشغل الخبير الحق بالملفات التي أمامه سينشغل بالعيون التي تراقبه والاشاعات التي تبث من حوله.... فينخرم التوازن الداخلي وينمو التباغض على حساب الوئام. وستتحمل الإدارة أعباء هذا التنازع حول السلطة والنفوذ وتُشل إرادة العاملين فيها ويخفت حماسهم ويتعاظم خوفهم من الاجتهاد ويتزايد ارتباكهم في المساعدة على أخذ القرار ويضطرهم وضعهم إلى تنفيذ "أوامر" وهم مدركون للضرر الذي فيها... هكذا يُختزل عملهم في متابعة اليومي ومعالجة مشاكله بالوسائل المتاحة دون رؤية مستقبلية واضحة ودون دراية بمآلات الإجراءات التي يقبلون على تنفيذها وينحصر جهدهم في إيجاد الفتاوي للتحيل على الوقائع المستجدة المهددة لرتابة سير الأوضاع والمصالح التي يباشرونها محاولة منهم لإرضاء نزوات التكتلات التي يستحيل إشباعها.
وحتى لا يلهينا التكاثر عن بقية المخاطر وتهلكنا المحاصصة أرى أن في الرجوع إلى الأصل فضيلة من أجل أن يتحسن حالنا وتتحسن أحوال إدارتنا وأحوال وطننا.
أعرف أن رأيي لا قيمة له عند من بهم صمم.
أعرف أن رأيي لا قيمة له عند من بهم صمم.