في بيت جدي لأبي، الذي أمضيت فيه العقد الأول من عمري، كانت هناك بئر عميقة. كان يوم الاستحمام بالنسبة لي يوم عيد. الأمر ليس متعلقا...
في بيت جدي لأبي، الذي أمضيت فيه العقد الأول من عمري، كانت هناك بئر عميقة.
كان يوم الاستحمام بالنسبة لي يوم عيد. الأمر ليس متعلقا بالنظافة وتغيير الثياب، بل كانت متعتي الكبرى في مراقبة أمي، وهي تمسك الدلو الرمادي، فتلقيه في البئر، فتحرك حبل الجرارة الأخضر يمنة ويسرة، فتصدر موسيقى مضحكة، فتسحب الدلو ببطء وتسكبه في "النحاسة" وهكذا دواليك حتى تمتلئ هذه الأخيرة، فتشعل من تحتها النار، وننتظر غليان الماء، لتبدأ عملية الاستحمام.
وكم كنت ألح على أمي حتى تترك لي أمر ملء الدلو، ولو مرة واحدة. لكنها كانت ترفض. وتنشأ أمي في تأليف الحكايا، فإذا الدلو، فارغا، ثقيل فكيف إذا امتلأ، وإذا حبل الجرارة الأخضر يكاد يتقطع ويجب أن تمسك به يد غليظة لا يدي الصغيرة، وإذا البئر تحوي غولا، فإذا علم الغول أن من يملأ الماء طفلة صغيرة فسيرتفع ويبتلعها... وأكاذيب أخرى تقولها أمي، وهي تملأ الدلو عند البئر، وأسمعها وأُجن. فتنقلب متعتي كدرا، وإذا بي أمضي ساعة الاستحمام واجمة لا أكلمها وهي تكلمني. ثم ينتهي الأمر فتلبسني ثيابي وترسم على وجنتي قبلة فأبتسم، ونكمل معا السهر او أنام. ويأتي صباح الغد، فأذهب إلى البئر، وأقترب من الدلو وأحاول أن ألقيه، فأتذكر أحاديث أمي وأخاف. أعود إلى الوراء قليلا وأتمتم بطيش الأطفال "أنا أكره أمي" وأكاذيب أخرى أقولها كالتي قالتها لي أمي لتمنعني من التفكير في ملء نصف دلو من الماء.
الغريب أنني بعد أن أتفوه بذلك أنتشي، فكأنني ألقي بكل همي إلى البئر، وأعود إلى أمي فأقول لها إنني أحبها ولا أكرهها.
بعد مضي عقدي الأول انتقلنا إلى منزلنا الجديد. ولم تنتقل معنا البئر ولا "النحاسة" بل أصبحنا نضغط على زر أبيض في آلة بيضاء فينزل الماء أبيض، لكنه ساخن. فأراد أبي أن نستحم بماء لا لون له ولا رائحة، فحفر في منزلنا الجديد بئرا جديدة. لكنني لم أشعر بالرغبة في الاقتراب منها، لا من دلوها الخفيف ولا من حبلها المتين ولا من جرارتها الجديدة. ربما لأنني كبرت، أو لأن أمي قلما تراودت عليها، فماء البئر صار يأتينا بمجرد أن ندير الحنفية...
في منزلنا الجديد، تمتعت بأريحية كبيرة مقارنة بمنزلنا القديم. التلفاز أكبر حجما، الغرف واسعة، الموقد لا يحتاج إلى ولاعة ليشتعل، وأنا لا أحتاج دلوا لأملأ الماء من البئر.
لكنني، أحتاج إلى بئرنا القديمة، لأخبر الغول أنني... لا أكره أمي...
كان يوم الاستحمام بالنسبة لي يوم عيد. الأمر ليس متعلقا بالنظافة وتغيير الثياب، بل كانت متعتي الكبرى في مراقبة أمي، وهي تمسك الدلو الرمادي، فتلقيه في البئر، فتحرك حبل الجرارة الأخضر يمنة ويسرة، فتصدر موسيقى مضحكة، فتسحب الدلو ببطء وتسكبه في "النحاسة" وهكذا دواليك حتى تمتلئ هذه الأخيرة، فتشعل من تحتها النار، وننتظر غليان الماء، لتبدأ عملية الاستحمام.
وكم كنت ألح على أمي حتى تترك لي أمر ملء الدلو، ولو مرة واحدة. لكنها كانت ترفض. وتنشأ أمي في تأليف الحكايا، فإذا الدلو، فارغا، ثقيل فكيف إذا امتلأ، وإذا حبل الجرارة الأخضر يكاد يتقطع ويجب أن تمسك به يد غليظة لا يدي الصغيرة، وإذا البئر تحوي غولا، فإذا علم الغول أن من يملأ الماء طفلة صغيرة فسيرتفع ويبتلعها... وأكاذيب أخرى تقولها أمي، وهي تملأ الدلو عند البئر، وأسمعها وأُجن. فتنقلب متعتي كدرا، وإذا بي أمضي ساعة الاستحمام واجمة لا أكلمها وهي تكلمني. ثم ينتهي الأمر فتلبسني ثيابي وترسم على وجنتي قبلة فأبتسم، ونكمل معا السهر او أنام. ويأتي صباح الغد، فأذهب إلى البئر، وأقترب من الدلو وأحاول أن ألقيه، فأتذكر أحاديث أمي وأخاف. أعود إلى الوراء قليلا وأتمتم بطيش الأطفال "أنا أكره أمي" وأكاذيب أخرى أقولها كالتي قالتها لي أمي لتمنعني من التفكير في ملء نصف دلو من الماء.
الغريب أنني بعد أن أتفوه بذلك أنتشي، فكأنني ألقي بكل همي إلى البئر، وأعود إلى أمي فأقول لها إنني أحبها ولا أكرهها.
بعد مضي عقدي الأول انتقلنا إلى منزلنا الجديد. ولم تنتقل معنا البئر ولا "النحاسة" بل أصبحنا نضغط على زر أبيض في آلة بيضاء فينزل الماء أبيض، لكنه ساخن. فأراد أبي أن نستحم بماء لا لون له ولا رائحة، فحفر في منزلنا الجديد بئرا جديدة. لكنني لم أشعر بالرغبة في الاقتراب منها، لا من دلوها الخفيف ولا من حبلها المتين ولا من جرارتها الجديدة. ربما لأنني كبرت، أو لأن أمي قلما تراودت عليها، فماء البئر صار يأتينا بمجرد أن ندير الحنفية...
في منزلنا الجديد، تمتعت بأريحية كبيرة مقارنة بمنزلنا القديم. التلفاز أكبر حجما، الغرف واسعة، الموقد لا يحتاج إلى ولاعة ليشتعل، وأنا لا أحتاج دلوا لأملأ الماء من البئر.
لكنني، أحتاج إلى بئرنا القديمة، لأخبر الغول أنني... لا أكره أمي...