هل ذهبت النهضة ضحية وهمها وصلفها؟ لا يجب أن نتسرع في الحكم على ما حدث يوم أمس باستقالة السيد رئيس الحكومة وما تضمنه بيان رئاسة الحكومة من...
هل ذهبت النهضة ضحية وهمها وصلفها؟
لا يجب أن نتسرع في الحكم على ما حدث يوم أمس باستقالة السيد رئيس الحكومة وما تضمنه بيان رئاسة الحكومة من تخذير ووعيد. وليس علينا أن نفرط في التفاؤل وانتظار حل سحري من الحكومة القادمة للأزمة التي نتخبط فيها... لا تملك الأطراف "المهيمنة" على المشهد السياسي اليوم، والتي تعمل على "عزل" النهضة من الحكم، حلولا حقيقية لشؤوننا الاقتصادية والمالية والاجتماعية والائتلاف الذي سيكوّن الحكومة قد تكون أطرافه متباعدة ومتناقضة والاجتماع على إقصاء النهضة لا يكفي وحده لمعالجة الوضع أو على الأقل للتقدم في تخفيفه بخطى ثابتة وواثقة وبلادنا مهددة بنسبة نمو قد تصل إلى ما دون % 6 -.. هذا اذا افترضنا أن النهضة ستقبل، هادئة، بعزلها من الحكم والالتحاق بالمعارضة. لقد ضاق عليها هامش المناورة السياسية خاصة وهي تنتظر عزل شيخها من رئاسة مجلس نواب الشعب ولم يعد بإمكانها إغداق الوعود، بالأريحية المعهودة، على "أصدقائها" الذين ضجوا، هم أيضا، من غطرستها.
ومع ذلك يمثل ما حدث يوم أمس أمرا مهما قد تكون تبعاته هامة على حياتنا السياسية لو احسن "خصوم" النهضة إدارة المناورة... بعض "خصومها" من طينة خاصة لأنهم كانوا إلى عهد قريب "أصدقاء" أكلوا من مائدة النهضة كثيرا أو قليلا وارتزقوا بما منته عليهم من حضور في المشهد ومن امتيازات. (طبعا استثني من هذا رئيس الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل) وبعضهم الآخر اضطرهم الظرف للحكم معها والتواجد في حكومة هي طرف هام منها وفاء لنواياهم الصادقة.
لقد ذهبت النهضة ضحية غرورها حين أساءت تقدير ذاتها وتقدير حجمها وقد يحصل لها ما حصل للضفدعة حين توهمت انها بتجرعها كميات هائلة من الماء يمكنها أن تكون بحجم الثور وقوته. يتمثل وهمها في اعتقادها أنها تمكنت من المشهد السياسي والاجتماعي وأنها تمكنت من الدولة وبيدها أن توجه الدولة أو "تفجرها" إذا ما استعصى عليها توجيهها... بدأ وهمها حين اعتبرت نفسها "مركزا" والبقية مجرد أطراف تنشد رضاها... وأوجدت حولها حشودا من الانتهازيين ينفخون في صورتها وانتهت إلى تصديق ما روجته حول نفسها من عظمة وقدرة... توهمت أن "شيخها"، برصيد علاقاته وولاءاته، يمكنه أن يدير شأن الناس الديني والدنيوي ويؤمن لهم دنياهم وآخرتهم ويحسم في توتراتهم الداخلية والخارجية. توهمت أن "مجلس الشورى" هو المؤسسة "الشرعية" الوحيدة وعلى بقية مؤسسات الدولة أن تكون طوع بنانها وأن ما يقوله المجلس لا رد عليه غير بطاعة الجميع وخضوعهم.
ومن أجل البقاء في المركز حولت النهضة المشهد السياسي الى صراع مواقع لا صراع برامج وأصبح ملء الفراغ واحتلاله اهم من إدارة الإمتلاء وأشاعت بين الناس أن "المناورة" أهم ما في العمل السياسي وأن الحكمة دهاء والذكاء خبث... أدى بها هذا الغرور الواهم إلى أن تختزل في ذاتها كل عيوب العمل السياسي وآثامه: احتكار الدين وتوظيفه، المناورة، الفتك بالخصوم وتشتيتهم، تغذية التطرف للقبول بما تسميه اعتدالها، التمكن من أجهزة الدولة، ترذيل الحياة السياسية، الخلط المتعمد بين السياسي والديني، المماهاة بين مصلحة الحزب / الجماعة ومصلحة الوطن، تغذية الأطماع في النفوس بالمال والجاه، تبرير الإرهاب وتبييضه، تهديد الخصوم بالملفات، توجيه الإعلام، اختلاق الأزمات والصراعات الكلامية الواهية، ازدواجية الخطاب، الظاهر والباطن والسري والعلني .. وغيرها من عيوب العمل السياسي ورذائله ونجحت في إشاعة كل هذا داخل الأحزاب.
أعماها هذا الغرور عن تقدير حقيقة قوتها وعن إدراك أن ما تعتقده قوة هو في الحقيقة امتداد ضعف الخصوم ومرآة انتهازيتهم وطمعهم وانعكاس تشتتهم وتشظيهم وعنوان أمراضهم وأحقادهم .. زين لها هذا الغرور مماهاة وجودها مع الحكم واعتبار نفسها مركزا تنشد إليه بقية الأطراف.
علمتنا أساطير الأولين أن جل السحرة ماتوا بسحرهم.
ومع هذا تبقى الأسئلة قائمة:
- إلى أين سيمضي رئيس الدولة بالمشهد السياسي؟ من سيكون خليفة السيد الياس الفخفاخ؟ هل سيشترط عليه، مباشرة أم بطريقة غير مباشرة، عدم إشراك النهضة في الحكومة؟ أي حزام سياسي سيكون لهذه الحكومة؟ من سيكون في الحكومة ومن سيكون في المعارضة؟ هل ستكون الحكومة المنتظرة قادرة على رفع التحديات وحل الأزمات (بضم النهضة أو باقصاءها)؟ هل يتوقف الأمر عند حد إقصاء النهضة من الحكومة أم سيتعداه إلى محاسبتها ومراجعة منزلتها في المشهد السياسي؟ هل سيفضي الأمر إلى القطع نهائيا مع منظومة "الإسلام السياسي" وتصفية تركته؟
ويبقى السؤال الأهم:
هل سيغير تبديل الحكومات وتغيير الشخصيات من حال البلاد أم ستتنادى الأزمات وتتعاقب في ظل هذا النظام السياسي الهجين ومع هذا المشهد البرلماني الفظيع؟
اخشى ما اخشاه ان نكون أمام مجرد انتقال من صراع حول تقاسم الحليب إلى النزاع حول الاستئثار بالضرع... وقد جف الضرع.
ومع ذلك، لا ينقطع التفاؤل، به نعيش وبه نمضي صوب المستقبل.