يحدث أن نرتبك في تقدير بعض الممارسات وقد يختلط علينا الحق بالمصلحة وقد نصاب ببعض العمى الفكري في ترجيح هذا الموقف على ذاك لكن كل هذا لا يسمح لنا مواصل
خاطرةحول حريات "الرأي والتفكير والتعبير".
حين نعود إلى المناضلين التاريخيين والمفكرين والفلاسفة المدافعين عن هذا النمط من الحريات والتي افضت تأملاتهم ونضالاتهم وتضحياتهم إلى صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما ترتب عليه من نصوص حقوقية مختلفة نصنفها الآن بالإشارة إلى أجيالها المتعاقبة، ندرك أن حواراتنا قد تنزاح في بعض الأحيان عن سياقاتها التاريخية ودلالاتها الأصيلة. إن الحركة الحقوقية قامت لنصرة المفكرين والمبدعين المدافعين عن أفكارهم بالحجة والذين اضطهدتهم السلطة المستبدة، سياسية كانت أو دينية... إن غالبية المضطهدين الذين عذبوا وسجنوا وقتلوا وحرقوا او حرقت مؤلفاتهم كانوا يعبرون عن نزعة إنسانية اقتضت تأصيل الحرية واعتبارها طبيعة انسانية أو حقا طبيعيا على كل النظم السياسية حفظها ورأوا في اختراقها مسا بإنسانية الإنسان. لذلك اقترنت الحرية عندهم ، وفي المدونة العالمية لحقوق الإنسان، بالكرامة الإنسانية. إن علاقة مفهوم "الحرية" بمفهوم "الكرامة" ليست علاقة عرضية او سببية ولا هي من طبيعة علاقة الحامل بالمحمول في القضايا التركيبية (كانط)، إنها علاقة مماهاة حتى أنه لا تقوم حرية دون كرامة ولا تكون كرامة بلا حرية وكل انفصال بينهما أو قطيعة لا تكون إلا مولدة لاغتراب إنساني مقيت..ما كان مناضلو حقوق الإنسان ليدافعوا عن حرية (التفكير، التعبير والرأي) حاطة بكرامة الإنسان وما كانوا يتصورون أبدا كرامة لإنسان مسلوب الحرية.. فالإنسان حر بكرامته ومحفوظ الكرامة بحريته: ذاك هو النبل الإنساني الأصيل. ليست الكرامة حقا، إنها مبدأ كل حق وأصل له.
وحتى لا يقع انحراف او زيغ جاء التأكيد في كل المعاهدات والمواثيق الدولية على شمولية حقوق الإنسان وغير قابليتها للتجزئة بحيث تفقد معناها كلما أخذنا حقا وعزلناه عن بقية الحقوق...
وحتى لا تنتهك هذه الحريات جاءت القوانين والتشريعات ضامنة لممارستها. لذاك لا يجوز، بناء على كل هذا، أن نحول الرداءة إلى حق والتعبير المهين إلى حق والإذلال إلى حق والسخرية الهجينة إلى حق والإساءة إلى حق والاسفاف إلى حق والقرف إلى حق .. لأن كل ذلك حاط من كرامة الإنسان.
قد يحدث أن نرتبك في تقدير بعض الممارسات وقد يختلط علينا الحق بالمصلحة وقد نصاب ببعض العمى الفكري في ترجيح هذا الموقف على ذاك لكن كل هذا لا يسمح لنا مواصلة النظر في ما يحدث بعيدا عن المماهاة بين الحرية والكرامة. لقد صمت بعضنا على هذا الانحراف وشجعه بعضنا أو على الأقل استحسنه لغاية في نفسه... وقد سبق أن استاء مني بعض الأصدقاء حين وقفت ضد البذاءة التي طالت السيد محمد الجملي في قصيدة "الشلاغم" الشهيرة. والخطر في كل هذا هو خوض معارك واهمة لا منتصر فيها ولا منهزم فنجهد أنفسنا فيها حتى لا نكون قادرين على خوض المعارك الحقة.
قد يعاب على هذه الخاطرة أنها ذات خلفية "بورجوازية" ضيقة وإصلاحية تقفز على الصراع الحقيقي، السياسي والاجتماعي، الدائر في المجتمع وتسهو عن خلفياته... وقد يكون هذا عيبا حقيقيا. إن ما يجعلني مطمئنا إلى عيبي هذا هو أن الخواطر أو القراءات الأكثر تقدمية والأكثر ثورية ستكون بالضرورة الأكثر تقديرا لكرامة الإنسان والأكثر حفظا لها والأكثر دفاعا عن الحربة..
التعليقات