ينفق في سبيل..... قصة من واقع الحياة بقلم الاستاذ الشيخ الهادي الجمالي

كنت وصاحبي بالمقهى وقد غرقنا في صمت عميق فلم يكن أحدنا يفكر إلا حال نفسه، يتسمع أنين جسمه لما يحسه من آلام الشيخوخة



ينفق في سبيل.....

كنت وصاحبي بالمقهى وقد غرقنا في صمت عميق فلم يكن أحدنا يفكر إلا حال نفسه، يتسمع أنين جسمه لما يحسه من آلام الشيخوخة، وفجأة مر أمامنا كهل هو أقرب إلى الهرم منه إلى الشيوخ يمشي متعثرا يسل رجلا بعد أخرى فكأن الدهر حرث عليه وكأن الهموم تجمعت لديه، فد اصفر لونه وذبل عوده وتقوس ظهره يمشي به عكازه المرتعش في يده، وكان من حين لآخر يمد يدا مرتجفة لمن يعرف أنه يعرفه يطلب حسنة فيدس في جيبه ما دسه المحسن في يده

فرفع صاحبي رأسه وتنهد وقال: أتعرف هذا السيد؟ قلت:لا. قال إن وراءه لعبرة وموعظة لكل من كان له قلب.

قلت ألا يحق لي أن أسمع ما تعرف؟ قال: بلى ففي ذلك إحياء للنفوس وتحفيز للهمم، استمع لحكايته، قلت: هات

قال: مات والده والذي كان من أكبر الفلاحين وأغناهم، وبحكم أنه بلغ العشرين سنة من العمر فسنه المتقدمة نسبيا على سن إخوته حمّلته المسؤولية إدارة كل الأرزاق، فأشرف على الفلاحة وراقب العمال والعاملات، وكان ميالا لتشغيل النساء والبنات أكثر من ميله لتشغيل الرجال والشباب.

فموسم جمع الزيتون كان عنده أفضل المواسم والذي ترتاح له نفسه ويترقبه بفارغ الصبر، وذلك لأنه يجد فيه ما تشتهيه نفسه حيث يجتمع في غرس الزيتون وتحت إشرافه العشرات من العمال والعاملات النازحين من أصقاع بعيدة وتحت إلحاح الحاجة، تراهم يتهافتون على طلب الشغل مهما كان ومهما كان الأجر المقابل، فالجوع كافر والخصاصة مذلة فتندفع الجموع الغفيرة إلى الهجرة(المهاجرون هنا يسمونهم هطاية) كانت هجرتهم صيفية لجمع الحبوب وشتوية لجمع الزيتون.

كان صاحبنا ينتقي من العاملات أصغرهن سنا وأجملهن خلقة فيفردها بجمع ولقط ما طاش من حب زيتون ويبعدها عن طرف الغرس الذي فيه العمال إلى طرف بعيد عنهم وكان من حين لآخر يتظاهر بتفقد تلك العاملة، ولما يقترب منها يرمي لها بحفنة من النقود قريبا من رجليها ويضحك، ثم بحركة من عينيه يقول لها: اجمعي ما بعثر من نقود لك، فان فعلت ولم لا تفعل والجوع يمزق الأحشاء، ويذل الأنفة، ويحط الكبرياء، والنقود تسيل اللعاب، وتروض العصية؟ فتفعل وتستسلم لما طلب منها بل لما أمرت به،عليها واعدا بما هو أثمن وأكثر فلا تمانع

فقد كان ينفق مالا أكثر مما يدخل في موسم جمع الزيتون في نزواته وغزواته الشيطانية، وهكذا أضاع جزءا كبيرا مما خلف له الأب الراحل

وقد صدق فيه قول الحكيم:

إذا دام هذا السيرُ يا مسعودْ*لا جملَ يُبْقِى ولا قعود

ولم يكن هذا دأبه في موسم الزيتون وحصاد الزرع فقط، بل كانت له ولأصحابه غزوات وفتوحات ففي كل ليلة جلسة خمرية وحشيشية، وكثيرا ما يقرر الأصحاب القيام برحلة صيد كما يسمونها، فتراهم في ليلة صيدهم وقد اجتمع الأقران في طاحونة الحاج(....)وبدأت الكؤوس تدور بينهم ملآنة من جرة الخمر التي ابتاعوها من يهودي يعمل بائع خمر في المنطقة كلها، وكثرت الاقتراحات،

وهذه إحدى غزواتهم ففي ليلة صادف اقتراح قدمه أحدهم للذهاب إلى العاصمة قبولا جماعيا.

هم ثلاثة من الشباب ميسوري الحال من أبناء الذوات في بلدتهم اتفقوا على السفر إثر جلستهم تلك.

غادر الكل مجلس الرفاق وتوجه توا إلى دار أسرته حيث أعد فرسه ودس في جيوبه ما دس من مال وتسلح بما لديه من سلاح للدفاع عن النفس والمال من قطاع الطرق، وقد كانوا يعرفون أماكن تواجدهم بحكم ترددهم المستمر على العاصمة.

فعل ذلك –م الذي رأيته- كبقية رفاقه إلا أن سلاحه كان الأكثر جدوى فهو يملك مسدسا ذا خمس طلقات دسه في جيب فرملته(صدار يخاط من قماش مطرز بالحرير) بعد أن حشر فيه رصاصات ثم أخفى خنجرا لامع النصل حادا مصقولا ولم ينس أن يحمل عقد تملك لدار صغيرة تقع في إحدى أحياء المدينة، من باب الاحتياط إذ أنه فكر في مصدر ثاني للمال الذي قد يحتاجه في نزهته تلك، وعلى طرف المدينة اجتمع الرفاق الثلاثة وكان الوقت بعد منتصف الليل والقمر ينير السبيل وهم الأدرى بمسالك الطرقات والأحراش، وجدّوا في السير فكنت لا تسمع إلا وقع سنابك خيلهم، وطال المسير فأراحوا دوابهم في بلدة تقع قبل العاصمة ببضع العشرات من الكيلومترات، وقد طلع الصبح وسطعت الشمس فمالوا إلى مطعم حيث أكلوا ما أشبع جوعتهم وأراحوا دوابهم وسقوها وأعلفوها ثم واصلوا مسيرهم حتى بان لهم باب عليوة حيث قصدوا الفندق"إسطبل الدواب" وأوكلوا إلى صاحبه مهمة العناية بالدواب بعد أن قدموا له حسنة ثم أصلحوا من حالهم وتوجهوا نحو الكازينو الذي تعودوا الجلوس فيه فشربوا ما شربوا من الخمور الأجنبية، وأكلوا ما أكلوا من أطعمة أعدتها أيادي فرنسية أو إيطالية حتى ملّوا

فمالوا إلى النزل الذي صار صاحبه يعرفهم بحكم تكرر الزيارات له ففرح بمقدمهم ولامهم على طول الغياب عنه وسأل من حضر منهم عمن لم يحضر هذه المرة.

لقد وجدوا ترحابا وحفاوة لائقين بحرفاء من الوزن المحترم عند صاحب النزل الإيطالي لما يغدقون من عطايا وهبات وما ينفقون وما يحدثونه في النزل من حركة تجارية وإن كانت مما لا يرضاه الذوق السليم والمروءة. وبسرعة أرسل صاحب النزل إلى حريفاته يخبرهن بقدوم صيد سمين الليلة، واقترح على نزلائه العشاء عنده على شرفهم"لو كان لهم شرف" فقبلوا شاكرين، و مد –م- يده وقدم شيئا من المال إلى صاحب النزل على الحساب واشترط أن يكون العشاء والسهرة وما يلزم تلك القعدة وما يتبعا من النوع الراقي: مِن...ومِن...، وأسرّ بكلمات إلى صاحب النزل، ثم قال له: المال موفور والحمد لله ونحن عطاشى فتبسم صاحب النزل وقال: لكم أفضل ما في المدينة والعالم، همنا خدمتكم. ثم قال قائل منهم: ليكن مبيت كل واحد منا في غرفة مستقلة له ولضيف..ه، وقهقه الجميع. وذاك ما تم فعلا

لقد علت الضحكات المتمازجة بالدعابة والممازحة وآهات الغناء في الغرف الثلاث، ولم يهدأ القوم ولم يخلدوا إلى النوم إلا بعد أن صدح سوط يردد: الله أكبر. حيث خمدت الحركة وأطفئ الضوء، ولم ينهضوا إلا مساء متثاقلي الرؤوس محمري الأحداق، فغيروا من ملابسهم وخرجوا بعد أن ودع كل واحد منهم ضيف..ه وأهدى ما يجب إهداؤه من مال

ثم توجهوا إلى الكازنو حيث عقدوا جلسات حول مائدة القمار والشرب والأكل والتفرج على ما رخص من بضاعة حواء التي دفعوا إليها ما يرضيها من النقود، لقد خسر كل واحد ما جلب معه من مال ليلته

وعلى أمل الربح وردِّ الخسارة تقدم-م- من المشرف على الملهى وعرض عليه أن يرهن عنده رسم عقار مسكن يقع ببلدته مقابل بعض النقود، وبعد مزايدة وافق –م-على ما عرضه عليه اليهودي.

فأُودع الرسمُ خزانة، غاب فيها كما ضاع المال المرهون به، وضاعت الدار لعدم الخلاص وسداد الدين.

وهكذا كان الأصحاب بين ترحال وغزوات وإنفاق ولهو وتبذير حتى أضاعوا ما يجب المحافظة عليه من مال ومكاسب وسمعة وتبدلت الحال من اليسر إلى العسر، وها أنك ترى اليد التي بعثرت المال تمتد متسولة....ولله في خلقه شؤون.
الشيخ الهادي الجمالي

التعليقات

الاسم

أخبار الطقس,69,اخبار جهوية,2,اخبار عالمية,217,اخبار وطنية,663,ثقافة,119,رمضانيات,16,رياضة,112,صحة,277,علوم,5,مال و اعمال,110,متابعات,491,مجتمع,450,
rtl
item
البوابة الإخبارية التونسية : ينفق في سبيل..... قصة من واقع الحياة بقلم الاستاذ الشيخ الهادي الجمالي
ينفق في سبيل..... قصة من واقع الحياة بقلم الاستاذ الشيخ الهادي الجمالي
كنت وصاحبي بالمقهى وقد غرقنا في صمت عميق فلم يكن أحدنا يفكر إلا حال نفسه، يتسمع أنين جسمه لما يحسه من آلام الشيخوخة
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEicDTVSBUGAvixCaV6ZWb6aL2Lpxk98YtcP6z-XWJEicxJx42oodT5Ih67k6iX7Zn4QBVYvROeTGaT_F0R31i-HokRqmlCeuma4o3cL2NStlUqtx-46PHN1SEsF9RMuTCLFY-I3EaOSZmHs/w400-h400/FB_IMG_1601101795203.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEicDTVSBUGAvixCaV6ZWb6aL2Lpxk98YtcP6z-XWJEicxJx42oodT5Ih67k6iX7Zn4QBVYvROeTGaT_F0R31i-HokRqmlCeuma4o3cL2NStlUqtx-46PHN1SEsF9RMuTCLFY-I3EaOSZmHs/s72-w400-c-h400/FB_IMG_1601101795203.jpg
البوابة الإخبارية التونسية
https://www.elbaweba.com/2020/09/blog-post_19.html
https://www.elbaweba.com/
https://www.elbaweba.com/
https://www.elbaweba.com/2020/09/blog-post_19.html
true
8895115353301164337
UTF-8
تحميل جميع المشاركات لم يتم أيجاد اي نشاركات عرض الكل أقراء المزيد الرد الغاء الرد مسح بواسطة الرئيسية صفحات المشاركات عرض الكل موصي به لك التسميات أرشيق المدونة البحث جميع المشاركات لم يتم العثور على اي مشاركات الرجوع الى الصفحة الرئيسية الأحد الأثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت شمس Mon Tue Wed Thu Fri Sat January February March April May June July August September October November December Jan Feb Mar Apr May Jun Jul Aug Sep Oct Nov Dec just now 1 minute ago $$1$$ minutes ago 1 hour ago $$1$$ hours ago Yesterday $$1$$ days ago $$1$$ weeks ago more than 5 weeks ago Followers Follow THIS CONTENT IS PREMIUM Please share to unlock Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy