ليس مهما أن يكون "الحمام" قد أكل القمح فعلا وليس مهما أن تكون كمية القمح أكثر أو أقل من 30 قنطارا. لا يهم كثيرا أيضا لون الحمام...
ليس مهما أن يكون "الحمام" قد أكل القمح فعلا وليس مهما أن تكون كمية القمح أكثر أو أقل من 30 قنطارا. لا يهم كثيرا أيضا لون الحمام... قد لا يتعدى "الخبر" مجرد سردية صدقناها بسبب كثرة تداولها.. المهم، في هذه السردية، الحقيقة التي تثويها والتي لا يجادل في صحتها عاقلان، وهي : "إهدار الثروة الوطنية" التي منها نعيش وبها يمكن أن تتحسن أحوالنا. اكتسب "الحمام"، عندنا هذه الأيام، رمزية تدل على الحال الذي انتهينا إليها:
يكد فلاحو بلادي من أجل انتاج الثروة ويبلغ إنتاجهم أحيانا أرقاما قياسية وتهدر السياسات العامة المعتمدة إنتاجهم فيجوع الفلاحون ويجوع الناس معهم... حصل هذا مع الزيت والزيتون والتمور والليمون والحليب والحبوب والتفاح والقوارص والخرفان وغيرها من خيرات بلادنا الفلاحية... نهدر الماء النازل من السماء ليضيع في البحر بعد أن يحمل معه بيوت الناس ومتاعهم ويتلف مزارعهم ويقطف أرواحهم ويدك بنيتهم التحتية وطرقاتهم وجسورهم ونحن نعلم أن الحروب القادمة حروب ضارية حول الماء والقدرة على تحصيله وتخزينه... نهدر الطاقة بتعطيل إنتاج الثروة بقفصة (الفسفاط) وبالكامور (البترول) حتى صرنا، بعد مراتبنا الأولى، نستورد الفسفاط من الشقيقة الجزائر... نهدر "الثروة البشرية" ونفرط في الذكاء الذي انتجناه نهديه مجانا، بعد شقاء السنين، لتستفيد منه الدول التي تهيمن علينا وتتقدم على حسابنا... وما بقي منه عندنا نذله بالبطالة ونهدره باللامبلاة أو نترك له البحر يمتطيه قاربا للموت الرهيب او نرجمه حين يضرم النار في جسمه احتجاحا وتنديدا..... ولا يخجلنا أن نرى بعض هذا "الذكاء" يصرف في التطرف والإرهاب بعد أن يهدره الجهل وتبدده الخرافات.
نهدر أحلام الناس التي تكونت عندهم بنشر اليأس في قلوبهم والشلل في أياديهم لنبيعهم أوهاما يتعلقون بها لأجل غير معلوم يلهثون وراءها دون عتاد.. ونهدر فيهم قيمة العمل ونجمّل في عيونهم التواكل على العائلة المنهكة والدولة المفلسة ونترك لهم ما يتغافل عنه كبار المهربين ولوبيات المال والتهريب...
نهدر الزمان بلا حساب وبلا عد للقرون والسنوات والشهور والأسابيع والأيام والساعات والدقائق والثواني والأعشار ونحن ننتظر الهلال.. لا نهتم لتبدل الأزمنة وانقلاب الأحوال ونهدر الأفعال بنظم الخطابات وترصيف الكلمات وترتيل العبارات.
نهدر القليل من مكتسباتنا فنكسر نوافذ المدارس والمعاهد والحافلات ونلوث الحدائق والساحات والطرقات والشطوط والبحار ونقتلع الورود والأشجار ونحرق الغابات وننتهك كل المجالات ونهدر المال العام والقروض والهبات في غير أبواب الاستثمار.
نهدر دم المغدورين من الأبطال ونبدد الملفات والسجلات ونزيف الأحداث والأخبار..
نهدر ثقافة المثقفين وفكر المفكرين وبحوث الباحثين وعلم العلماء وشعر الشعراء وخبرة الخبراء وفلسفة الفلاسفة ومسرحيات المسرحيين وأفلام السنمائيين ولوحات الفنانين والرسامين وأغاني المطربين وآثار المبدعين المجددين ونستثمر في الخرافة والدجل وننمي السذاجة والهبل ونهلل "للثقافة الرثة" وننشرها في كل مكان ... نضطهد الحقيقة ونهدر الجمال.
كلنا تلك "الحمامة" في مضمون رمزيتها... وبيننا الجراد والصقور والنسور والتماسيح وذوي الجلود الخشنة والثعالب والضباع والذئاب والخنازير ودود الأرض والثعابين والأفاعي والعقارب والحيتان الكبيرة والصغيرة...
وكلنا طريدة وفريسة.