عين "السخونة" عين تدمع وجرح ينزف. لا هي عين الجنوب ولا هي جرح الجنوب. إنها عين هذا الوطن بأكمله وجرحه. ما رأيت جسما لا يتألم والداء ينخر عضوا من اعظائ
أنا يا رفاقي من أهل الجنوب لأني من أهل الشمال.
أنا من شمال تونس ومن عشاق جنوبها. كنت أعرف جنوبها من دروس الجغرافيا والتاريخ... كانت كلمة "الجنوب" تشير في أذهاننا إلى توصيف جغرافي لامتداد وطن واحد لا غير. كلمة لا تحيل إلى "هوية" مستقلة في مواجهة "هوية " تقابلها. كنت أعرف أبا القاسم الشابي شاعرا تونسيا يعبر عما يخالج ضمير وطن بأكمله.. ما تصورت يوما أن يكون هذا الشاعر الذي من الجنوب "جنوبيا".. عشقت الجنوب أكثر من خلال عشرات الزيارات التي قمت بها لمدنه وقراه وأريافه وصحاريه وعشقت ناسه الذين عرفتهم هناك أو الذين ربطتني بهم علاقات مهنية أو علاقات صداقة... وما طالني منهم أذى أبدا. استقر بعض أهل الشمال في الجنوب واستقر بعض أهل الجنوب بالشمال كما يستقر أي مواطن في وطنه وكما يرحل أي مواطن بين مختلف بقاع وطنه.. ليس الجنوب جزءا من تونس إنه، فقط، بقعة من بقاعها... قرأنا في التاريخ ملاحم الجنوب وملاحم الشمال من أجل استقلال الوطن وعزته وأدركنا ما يصل بين ملحمة قبلي بالجنوب (مجرد مثال) وبين ملحمة تازركة بالشمال (مجرد مثال) من وحدة في الغايات والأهداف وأدركنا أن الدم الذي سال هناك من أجل الوطن هو من فصيلة الدم الذي سال هنا وأن عرق فلاحي الجنوب هو نفسه عرق فلاحي الشمال وأن الأرض التي ارتوت به هي نفس الأرض التي يمتد فيها خط الحرث من الشمال إلى الجنوب، خط جعل الحبوب والبقول والتمور مجرد تفاصيل.
شاءت السياسات أن تنتج الحيف بين الشمال والجنوب وبين الساحل والوسط وأن تعيد إنتاجه في الشمال وفي الجنوب وفي الساحل وفي الوسط.... السياسات المبنية على الحيف لا تكون عادلة هنا وظالمة هناك...هذه السياسات لا تكون إلا ظالمة في كل مكان وفي كل زمان... لذلك تجدها تغذي الجهويات لمصلحة تنشدها بزرع الأحقاد والضغائن والنبش في الزمان عما يمكن أن يشتت شمل الناس ويدفع بعضهم إلى الحمل على بعضهم وأن يهاجم بعضهم بعضا.
إن ما يحصل الآن في الجنوب لا يحصل في الجنوب بل يحصل عندنا وفي ديارنا ويهددنا جميعا نحن من يقيم في الشمال ونحن من يقيم في الجنوب والألم الذي هناك يجد صداه هنا... الحرقة نفس الحرقة، بطعم الحنظل أو يكاد.
الصراع الآن ليس صراع جنوب - جنوب بل هو صراع وطن نراه يتشظى ويمعن في تشظيه...
عين "السخونة" عين تدمع وجرح ينزف. لا هي عين الجنوب ولا هي جرح الجنوب. إنها عين هذا الوطن بأكمله وجرحه. ما رأيت جسما لا يتألم والداء ينخر عضوا من اعظائه أو جهازا من أجهزته إلا بتخدير.
إن ما يحدث هناك إنما يحدث بتدبير خسيس...
