أصبحنا نعيش وطنا يشهد مضيا نحو توزيع عادل لللوعة... ولم نشهد تمييزا إيجابيا إلا في توزيع الفقر والبؤس والجهل والألم والوجيعة والموت.
"مصعد" الهبوط المميت.
ماذا ستقولون يا ناثري الورد على قبورٍ تدفنون فيها قصوركم وتقصيركم؟
"وفاة طبيب جراح" بمستشفى جندوبة. غدرته ثقته المفرطة فيما اعتقد أنه بقي صالحا من تجهيزات المستشفي الذي يعمل فيه. طبعا سيُفتح ملف وفاته للبحث في أسباب سقوط "المصعد" والتدقيق في الجزئيات إفراطا في تقدير "التعلات" والمسؤوليات وقد ينسى فاتح الملف ملفه المفتوح بعد أيام وقد تتناثر أوراقه في أروقة مجهزة لإتلاف الملفات، وفي أحسن الحالات ستوجد "حلقة ضعيفة" تتحمل أعباء "الحادث" وتكون كبش فداء. سيهرع، طبعا، المسؤولون ونواب الشعب المغبون يتصنعون الألم وينثرون خليطا زائفا من الدموع والكلمات ويلتقطون الصور ويلقون خطابات غادرتها المعاني والعبر وينثرون الورد على القبور. سنحمد الله أن كان وحده ضحية ولم يكن المصعد مكتظا بالمرضى والعاملين...
لا يا سادة... هذا ليس حادثا بل هو جريمة بلون الاغتيال ثاوية في الكبد المتورم لمنظومة الصحية العمومية في بلادنا. إننا أمام دليل أخر على الخراب به نواجه طموح شاب كابد ما كابد، هو أهله، من أجل مصعد يرتقى به ويرنقى بوطنه فانحط به إلى موت مريع... شاب خيّر البقاء في بلده يكد من أجل الناس ويتطوع لخدمتهم في ظرف تعيس... جرى وراء حلم ولد معه وكبر وترعرع حتى نال بعضه. تزود بما نال ليزودنا بما نأمل من صحة وعافية وحياة. شاب كان يمكن ألا يكون بيننا.. كان يمكن ألا يكون في جندوبة وفي مصعد مستشفاها... كان يمكن أن يكون في أي مكان من هذا العالم الرحب حيث الرفاه في العمل والأيادي الممدودة والأكف المبسوطة والاحترام والتقدير والمال والوضع المريح، لكنه بقي هنا ليعاقبه إهمالنا وتجازيه لامبالاتنا بالموت..
لم تعد تعنيني حيثياتكم ولم أعد أثق بها وليس لي أن أهتم لتفاصيلها... ماذا تعني تفاصيلكم اللبقة والدقيقة أمام كل وجوه الموت التي عرفناها وعشناها والتي أصبحنا ننام عليها ونستيقظ؟... حدثوني عن اهمالكم وكيف سرقتم أحلام شبابنا من عيونهم وقلوبهم وعقولهم... وما اكتفيتم، فرحتم تحصدون أرواحهم وهم في طريقهم إلى المدرسة أو إلى العمل أو حتى في مقرات عملهم.
لستم وحدكم من يتحمل المسؤولية عما جرى ويجري... كلنا مسؤولون بمقادير مختلفة عما يحدث لوطننا. جبننا عارنا، صمتنا عارنا، أنانيتنا عارنا، نرجسيتنا عارنا، تخاذلنا عارنا، القطاعية التي فينا عارنا، الجهوية التي فينا عارنا، طلب الغنائم عارنا، الاستئثار بالشيء وباللاشيء عارنا..
ماذا ستقولون لوالدي الطبيب الشاب وماذا سنقول بعد سرقة الفرحة من قلوبهم إلى الأبد؟ من أين سيتزود أهله بالصبر؟ هل تكفي كلماتنا وعباراتنا وأموال العالم بها نشتري لهما فرحا جديدا وأملا جديدا؟ إن لوعة والديه، كلوعة الأولياء الذين اغتالت أبناءهم سيول المطر أو ماتوا بسبب حال الطرقات والحافلات والشاحنات والقطارات وظروف العمل...
ماذا ستفعلون لزملائه من أطباء وإطار شبه طبي وممرضين وإلى كل العاملين معه في مقاومة المرض والموت ونشر الحياة؟ ماذا ستقولون لكل هؤلاء الذي كانوا يشاهدونه مارا، لاهثا وهو يسعى لإنقاذ حياة واحد من أهالينا؟ ماذا ستقولون لكل الأطباء الشبان وطلبة الطب في بلادنا؟ ماذا ستقولون لجدران المستشفى المتهالكة ولأجهزته الصدئة ولأركانه المظلمة والأدوية المفقودة ولركام الأوساخ؟ ماذا ستقولون للمرضى الذين ينتظرون ويتألمون؟ ماذا ستقولون يا ناثري الورد على قبور تدفنون فيها قصوركم وتقصيركم؟
قولوا ما شئتم دون ان تورطوا الأقدار تتحمل عنكم أعباء تخاذلكم... قولوا ما شئتم لتبرير خراب الأوطان؟ قولوا ما شئتم ولن نطلب منكم مقدارا من الحياء والخجل قليلا كان أو كثيرا.
إن هذا الذي وقع في مستشفى جندوبة وقع في مستشفى جندوبة... نعم، وأنا على يقين أن كل مستشفياتنا نسخ من مستشفى جندوبة... وأن اللوعة التي عندهم اليوم يمكن أن تكون عندنا وفي أي وقت. أصبحنا نعيش وطنا يشهد مضيا نحو توزيع عادل لللوعة... ولم نشهد تمييزا إيجابيا إلا في توزيع الفقر والبؤس والجهل والألم والوجيعة والموت.
وكان ذلك بأيدينا وبئس ما أتت أيادينا.
عادل الحداد
التعليقات