فلا تبتهجوا كثيرا بانتصار قد يصبح "مغشوشا" إن أبقاكم على قصوركم في توحيد إراداتكم لخوض المعارك الكبرى التي يعيد الانتصار فيها للوطن دمه ثم حليبه ...
إلى من تركنا الانتصارات الكبيرة؟
وأخيرا، وبعد مرور خمسة أسابيع كاملة، أصدرت رئاسة مجلس نواب الشعب بيانا يدين العنف الذي مارسه فريق من النواب (كتلة ائتلاف الكرامة) على نواب ديمقراطيين. بيان تم اقتلاعه بعد احتجاجات واعتصامات ثم إضراب جوع مع حملة إعلامية ومساندة من طرف القوى الديمقراطية من داخل البرلمان ومن خارجه... لقد احتاج اقتلاع هذا البيان، الذي صيغ في أسطر قليلة باهتة، كل هذه التحركات والنضالات التي امتدت على أسابيع إثر مشهد عنيف تابعه مباشرة آلاف التونسيات والتونسيين في منازلهم. هلل الديمقراطيون المناضلون لصدور البيان واعتبروه انتصارا وتتويجا لمسار نضالي فيه الكثير من الإصرار والمعاناة وعبر خصومهم، وهم كثر، عن غضبهم بقلوبهم (الأغلبية) وألسنتهم واعتبر ناطقهم الرسمي أن صدور هذا البيان يُعد طعنة وغدرا وخيانة وهدد بقطع تحالف كتلته مع حركة النهضة ليوهم أنه قادر على ذلك وذهب نائب آخر إلى أن هذا البيان انتزع انتزاعا من رئيس المجلس وأن هذا الأخير اضطر إلى إصداره تحت الضغط.
ومهما يكن من أمر، أجدني حزينا أن يؤول الأمر في بلادنا إلى هذا الوضع الذي تُستنزف فيه كل القوى لخوض معارك صغيرة فيها الكثير من الافتعال.. يؤلمني أن تكون انتصارات القوى الديمقراطية بهذا الحجم في معارك كان لابد ان تخوضها... إن الزمن الذي نحتاج فيه إلى كل هذه الأشكال من النضال من أجل "بيان" يصدر عن رئاسة مجلس نواب الشعب يدين العنف البين والظاهر هو زمن موجع بقسوته والانتصار فيه، حين يكون بهذا الحجم وبهذه الحيثيات، يكون بمذاق الحنظل وتبقى المعارك الكبرى تنتظر من يخوضها بجدية.. معارك التنمية والعدالة الاجتماعية ومقاومة اللوبيات التي تنخر هذا الوطن نخرا حتى أتت على حليبه ودمه والآن قيحه...
إن بقاء القوى الوطنية والاجتماعية والنخب التقدمية على وضعهم هذا لا يُعدّهم إلى المعارك الكبيرة وتبقى انتصاراتهم الصغيرة انتصارات مهمة لكنها محدودة ومكلفة جدا لما تتطلبه من وقت وجهد... انتصارات يسهل الانقلاب عليها بغزوات يحسن الخصوم ترتيبها.
ليس حالنا قدرا علينا وإنما هو "كسب" سنوات قضيناها نبتكر أسباب التباعد نظيفها إلى أسباب موضوعية كان علينا معالجتها بحكمة..
فلا تبتهجوا كثيرا بانتصار قد يصبح "مغشوشا" إن أبقاكم على قصوركم في توحيد إراداتكم لخوض المعارك الكبرى التي يعيد الانتصار فيها للوطن دمه ثم حليبه بعد معالجة تقيّح جرحه.