بورقيبة و البايات أو الأسد والضّباع الجزء 2: الأسد بورقيبة

كان همُّ البايات الحسينيين إذن البقاء في السلطة حتى وإن كانت شكلية والعرش خاوٍ لأنّ الحكم الفعلي كان بيد فرنسا، ممثلا في الإقامة العامة ومسؤوليها

 

بورقيبة و البايات أو الأسد والضّباع  الجزء 2: الأسد بورقيبة

بورقيبة و البايات أو الأسد والضّباع

الجزء 2: الأسد بورقيبة


كان همُّ البايات الحسينيين إذن البقاء في السلطة حتى وإن كانت شكلية والعرش خاوٍ لأنّ الحكم الفعلي كان بيد فرنسا، ممثلا في الإقامة العامة ومسؤوليها. لكن العرش على خوائه كان يدرّ أموالا طائلة على العائلة الحسينية وكانت الدولة الحامية واعية كل الوعي بعامل المال في إدارة الحسينيين، خاصة لما عرف عليه البايات من إسراف وما تعوّدوا عليه قبل دخول فرنسا من سوء تصرف واقتراض مفرط حيث قامت فرنسا بداية من 1902 بتحديد مسبق لقيمة مخصّصات الدائرة السّنية(الميزانية المخصصة للباي ) وفرض مراقبة آلية عليها من الإقامة العامة عبر مُتصرف مالي تُعيّنه عليها. وتأتي هذه المخصصات من خزينة الدولة و ترتفع باستمرار بمرور السنوات واشتداد الأزمات المالية للعائلة الحاكمة أو الرغبة من فرنسا في التحكم والضغط عند الاقتضاء. وقد بلغت مخصصات الدائرة السنية لسنة 1952-1953 ما قدره 456.5 مليون فرنك بينما مخصصات الرئاسة الفرنسية لنفس السنة لم تتعدّ 67 مليون فرنك ( ) ورغم ذلك كانت مصاريف الباي تتعدى بكثير المخصصات حيث مثلا بلغت ديون الأمين باي لصالح الخزينة التونسية إلى حدود 8 أوت 1955 أكثر من مليار من الفرنكات ( ). وتلتجئ فرنسا دائما لتسديد تلك الديون من ميزانية الدولة (التونسية) أو عبر قروض وهِبات خاصة من الدولة الحامية ذاتها. مع التذكير أن المخصصات المالية تلك ينتفع بها كل أفراد العائلة الحسينية حسب المكانة في السلطة، (باي الكرسي، باي الأمحال...) والقرابة والعمر والجنس وهنا مربط الفرس لأنّ هذه الأموال يدفعها التونسيون في أغلبها كضرائب مختلفة ويستفيد منها الاستعماريّون أساسا (الموظفون، المعمرون...) ويمنح البايات جزءا من "الغنيمة" فهم كـ"الضّباع" التي تعيش على بقايا طرائد السباع وهي هنا طبعا الدولة الحامية فهم يعيشون في ظلها ومن فضلها وتمنحهم عوضا عن السيادة الفعلية بعضا من الامتيازات وتسكت عن تجاوزاتهم وتحضاهم بالتبجيل والمجاملات البرتوكولية. فأين هذا الوضع من حال الحبيب بورقيبة ؟

إن سيرة هذا الرجل معروفة لما كانت تردده أجهزة الحزب والإعلام وحتى المدرسة من مناقبه طيلة ثلاثين سنة. لكن لو أزحنا المبالغات الواردة في ذاك الخطاب المدْحي والتّضخيم الزائد لدور الزعيم في مكافحة الاستعمار واستصْغار رفاق النضال الوطني، وتحجيم دور البعض وغبط حق آخرين، لوقعنا على الصورة الواقعية والفعلية لبورقيبة ذاك الزعيم الوطني الذي حمل لواء الكفاح (مع رفاقه) لتحرير البلاد، قريبا من الشعب وحاملا همّه حيث جاب البلاد عرضا وطولا بصحرائها وسهولها، ناشرا الروح الوطنية ومعبِّئا الطاقات بينما كان البايات ظانّين إنهم من طينة أسمى يحتقرون الناس ويتكبرون عليهم ويتزلّفون للمستعمِر صاغرين ويختصرون تونس بين قصورهم من باردو إلى المرسى ثم حمام الأنف وأقصى ما غامروا بالوصول إليه، كانت القيروان بينما يزورون الدول الأوربية ومحطات الاستشفاء والسياحة. فالرجل فعلا كان وهبَ حياته لوطنه واضعا نفسه كغيره من المناضلين الكثيرين في خدمة قضيته بينما كان البايات لا يرون في البلاد إلا ما تدرّ عليهم من خيرات وحتى أفراد هذه العائلة إلا من ندر منهم – وفي فترة الخمسينات فقط عندما بدأت رياح التغيير تهبّ ساير بعضهم التيار احتياطا وتأمينا للقادم من الأيام – كانوا في أغلبهم بعيدين عن المشاغل الوطنية يعيشون في قصورهم تستهلك أوقاتهم التي يملأها الفراغ في دسائس النساء والتّحاسد والدّس لبعضهم البعض خاصة بين فرعيْ الباي الحاكم والباي المترقب (باي الأمحال) الذي يستعجل موت الأوّل ليأخذ مكانه ( ) فحيث كان بورقيبة كالأسد المدافع على عرينه العامل على طرد الداخلين عليه من الغرباء كان البايات يحيُون حياتهم في ظل الأسد الحامي(فرنسا) مستصغرين الزعماء الوطنيين في الأول ومحاولين كسب ود بعضهم في الأخير عندما قربت ساعة الخلاص.

أما عن حكم بورقيبة من 1956 إلى 1987 فإنّه يصعب موازنته مع حكم البايات لأن نتائج الحكمين كانت مشروطة بعوامل عدة تفوت الطرفين حتى وإن كانت مسؤوليتهم الخاصة ثابتة. فحكم بورقيبة رغم ما ينتقد فيه من استبداد فردي وتضييق على الحريات وإفراغ المؤسسات من مضمونها وتهميش للإرادة العامة وتعدي على الدستور وتسطيح للثقافة السياسية ( )، فإنه أقحم البلاد والمجتمع في روح العصر. وعكس حكم البايات ، لقد أحسنت عموما الدولة البورقيبية في التصرف في الثروة الوطنية ووظفتها لصالح الوطن بنشر التغطية الصحية وتعميم التعليم وتحديثه وتطوير الاقتصاد والبُنى التحتية وتجديد الثقافة وتحديث المجتمع ومواصلة القضاء على الأطر التنظيمية القديمة المُعرقلة للتقدم والتي كان يقوم عليها حكم البايات من عروشية وقبليّة وولاءات عائلية وجهويّة وثرائية والحدّ من ظواهر المحسوبية والرشوة والتمييز حيث خرجت تونس بفضل بورقيبة ومن معه من حكم العمائم والتّمائم وأعلت راية العلم والعقل.

وحتى إن طال حكم بورقيبة على ما يزيد عن ثلاثين سنة وشابَه بذلك حكمَ البايات، فإنه كان في المحصّل حاكما وطنيّا اجتهد لخدمة وطنه دون إغراقه في التبعية وبيعه للاستعمار. لكن كل الكائنات تهرم بما فيها الأسود وكانت هفوة بورقيبة الكبرى – مدفوعا ببطانة المصالح – هي إصراره على التمسك بالكرسي وغلق الباب أمام القوى الحية البديلة فسقط أداء دولته السياسي في آخر عهده في ما دأبت عليه دولة البايات من فساد وظلم ودسائس النساء والرجال وشائنات أخرى من جهويّة ومحسوبيّة، كذلك إن كانت الأسود لا تأكل مثيلاتها فإن الحبيب بورقيبة كآدمي قضى على الكثير من رفاق الدّرب بإخراجهم من التاريخ أو بتهميشهم أو حتى قتلهم (صالح بن يوسف) علاوة على خصومه لأنّه كان من فصيلة لا تقبل المنافسة، أما البايات فكانت إزاحتهم سنة 1957 بإعلان الجمهورية كانت أفضل ما يمكن أن يحكم به التاريخ على عائلة لم تكن من فصيلة "الضباع المسالمة" فحسب بل من فصيلة أضرّت بتونس قبل الحماية فهيأت استعمارها وخدمت الاستعمار عندما انتصب.

الأستاذ عميره عليّه الصغيّر من كتابه "الحاكم بأمره بورقيبة الأول"

التعليقات

الاسم

أخبار الطقس,67,اخبار جهوية,2,اخبار عالمية,211,اخبار وطنية,658,ثقافة,116,رمضانيات,14,رياضة,106,صحة,274,علوم,4,مال و اعمال,110,متابعات,480,مجتمع,437,
rtl
item
البوابة الإخبارية التونسية : بورقيبة و البايات أو الأسد والضّباع الجزء 2: الأسد بورقيبة
بورقيبة و البايات أو الأسد والضّباع الجزء 2: الأسد بورقيبة
كان همُّ البايات الحسينيين إذن البقاء في السلطة حتى وإن كانت شكلية والعرش خاوٍ لأنّ الحكم الفعلي كان بيد فرنسا، ممثلا في الإقامة العامة ومسؤوليها
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEh0Yegyv1KTZimQqciPCr71nEY4oUCg2YFbMWl7C1ZaFmoyH79jRbhHP52yOB9TbbH-x94jM6SBa7vNPw8wlR2xnda9oNG06GIP-rfnDPK7XOjRP5TYH6UyUHt-CQH7JWGr3UPTTnnEqGk6/w320-h240/inCollage_20210306_225305134.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEh0Yegyv1KTZimQqciPCr71nEY4oUCg2YFbMWl7C1ZaFmoyH79jRbhHP52yOB9TbbH-x94jM6SBa7vNPw8wlR2xnda9oNG06GIP-rfnDPK7XOjRP5TYH6UyUHt-CQH7JWGr3UPTTnnEqGk6/s72-w320-c-h240/inCollage_20210306_225305134.jpg
البوابة الإخبارية التونسية
https://www.elbaweba.com/2021/03/2.html
https://www.elbaweba.com/
https://www.elbaweba.com/
https://www.elbaweba.com/2021/03/2.html
true
8895115353301164337
UTF-8
تحميل جميع المشاركات لم يتم أيجاد اي نشاركات عرض الكل أقراء المزيد الرد الغاء الرد مسح بواسطة الرئيسية صفحات المشاركات عرض الكل موصي به لك التسميات أرشيق المدونة البحث جميع المشاركات لم يتم العثور على اي مشاركات الرجوع الى الصفحة الرئيسية الأحد الأثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت شمس Mon Tue Wed Thu Fri Sat January February March April May June July August September October November December Jan Feb Mar Apr May Jun Jul Aug Sep Oct Nov Dec just now 1 minute ago $$1$$ minutes ago 1 hour ago $$1$$ hours ago Yesterday $$1$$ days ago $$1$$ weeks ago more than 5 weeks ago Followers Follow THIS CONTENT IS PREMIUM Please share to unlock Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy