أدّت عملية إمدادات النفط السوفيتي إلى أوروبا، والتي بدأت عام 1968، إلى تقليص سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية عليها. وتمكنت ألمانيا في ذلك الحين من
لطالما كانت السيطرة على أوروبا عنصراً أساسياً في الهيمنة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا.
لعل هذا هو السبب في أن الإنذار الروسي، بالمناسبة، لا يتعلق فقط بالتوسع المحتمل لحلف شمال الأطلسي "الناتو" نحو الشرق، وإنما كذلك بتقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا بشكل عام.
لقد أدّت عملية إمدادات النفط السوفيتي إلى أوروبا، والتي بدأت عام 1968، إلى تقليص سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية عليها. وتمكنت ألمانيا في ذلك الحين من التغلب على مقاومة واشنطن، وإطلاق خط أنابيب الغاز، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن، كان الاعتماد المتبادل بين روسيا وأوروبا في المجال الاقتصادي ضماناً للحفاظ على السلام والاستقرار في أوروبا.
كان على الولايات المتحدة الأمريكية أن ترضخ للأمر، خاصة وأن ذلك لم يهدد مكانتها في زعامة الغرب.
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تمر اليوم بأزمة، تقترب فيها من فقدان هيمنتها العالمية، التي تتنافس عليها مع الصين وروسيا.
وبالنظر إلى القوة العسكرية لروسيا، فإن الصراع العسكري المباشر مع روسيا أمر غير مقبول بالنسبة للولايات المتحدة. كل ما تبقى هو حرب بالوكالة وعزلة اقتصادية، على أمل أن تنهار روسيا من الداخل.
كذلك تضطر الولايات المتحدة الأمريكية، لمواجهة نقص الموارد، إلى إنفاق حتى أكثر أصولها قيمة: أوروبا، حيث وضعت الولايات المتحدة أوروبا في دور "الكاميكازي" الانتحاري، الذي يجب أن يموت من أجل تحييد العدو.
من الناحية العملية، يعني ذلك أنه يجب على أوروبا، على أقل تقدير، رفض التعاون الاقتصادي مع روسيا، الأمر الذي سيؤدي إلى أزمة اقتصادية حادة في أوروبا على الفور، وفي روسيا أيضاً، التي ستصبح، إن قدّر لها أن تنجو، مشلولة لبعض الوقت على الأقل، بما يكفي لكي تتعامل الولايات المتحدة الأمريكية، بمساعدة حلفائها، مع الصين، ثم تجهز على روسيا.
والأفضل لو تمكنت الولايات المتحدة من تنظيم صراع عسكري بين أوروبا وروسيا بغرض القتال معها بالوكالة. ولتحقيق ذلك، تبدو الحرب في أوكرانيا مناسبة للغاية.
لم تتوقف واشنطن عن استفزاز روسيا بأيدي أوكرانيا منذ عام 2014، إلا أن روسيا لم ترد على تلك الاستفزازات. ومع ذلك، فلم يعد هناك أمام الولايات المتحدة الأمريكية المزيد من الوقت، فاقتصادها آخذ في الانهيار، وأصبحت واشنطن مضطرة لتسريع تنفيذ السيناريو الأوكراني.
ويقوم الغرب الآن بوضع اللمسات الأخيرة على حزمة من العقوبات التي ينبغي أن تفضي إلى قطع كامل للعلاقات بين أوروبا وروسيا. والتي يُزعم أنها لن تدخل حيز التنفيذ سوى في حالة "الغزو الروسي لأوكرانيا"، لكن من الواضح أنه بمجرد الموافقة على مسودة مشروع العقوبات، والموافقة عليها، ستنظم واشنطن على الفور استفزازاً أوكرانياً في إقليم الدونباس، من أجل الحصول على رد من جانب روسيا، وبالتالي ذريعة لفرض عقوبات شاملة.
فهل أوروبا مستعدة للمضي على مسار الخطة الأمريكية؟
إن أوروبا منقسمة. وباستثناء الدول التي تعاني من "رهاب الروس" المرضي مثل بولندا ودول البلطيق، يدرك الجميع في أوروبا تقريباً أن الخطة الأمريكية لأوروبا تعني الانتحار. ومع ذلك، فقد اعتاد معظم الأوروبيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية على الخضوع لواشنطن، وهم غير قادرين على تحمّل مسؤولية أمنهم. وكل أحاديث ميركل وماكرون وغيرهما من القادة الأوروبيين بشأن الحاجة إلى إنشاء جيش أوروبي خاص بهم، وعدم موثوقية الولايات المتحدة الأمريكية، لم تفضي في نهاية المطاف إلى أية نتيجة.
ومع ذلك، وحتى في هذه الحالة، فإن التصعيد الذي أطلقته واشنطن حول أوكرانيا، يخلق جيوب مقاومة بين الأوروبيين.
وفي خضم الزيارة الأخيرة للمستشار الألماني، أولاف شولتز، إلى واشنطن، وعلى الرغم من جميع الأسئلة الاستفزازية من جانب الصحفيين، رفض شولتز وضع خط أنابيب الغاز "السيل الشمالي-2" ضمن أهداف العقوبات المناهضة لروسيا، وهو خط الأنابيب الذي تؤيد إطلاقه بشدة إلى جانب ألمانيا النمسا.
كما أعلنت كرواتيا أنها ستسحب جنودها من "الناتو" حال نشوب صراع مع روسيا.
أعلنت الحكومة البلغارية كذلك أنه لن يشارك في الصراع المحتمل مع روسيا أي جندي بلغاري دون موافقة البرلمان. وبالنظر إلى انقسام البرلمان، ومطالبة عدد من أعضائه بانسحاب القوات الأمريكية من البلاد، فإن ذلك يعني منطقياً أن بلغاريا لن تشارك في أي مغامرة معادية لروسيا.
ورفضت الحكومة المجرية هي الأخرى استضافة وحدة من وحدات "الناتو"، مصرّحة بأنها ستضمن أمن البلاد بنفسها.
وبسبب الإجراءات المناهضة لروسيا من قبل الحكومة في سلوفاكيا، هناك أزمة حكومية تختمر في البلاد، والبرلمان منقسم بشأنها، حيث تؤيد الدولة بشكل عام حوار "الناتو" مع روسيا.
أما وزير خارجية إيطاليا، ووزير المالية الفرنسي، فقد اعترفا بأن "السيل الشمالي-2" هو أمر حيوي بالنسبة لأوروبا، ناهيك عن ارتداء الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، رداء صانع السلام، وإن كان لأغراض انتخابية.
بل إن أوكرانيا نفسها قد أدركت أخيراً أن قدرها الاحتراق في إطار تنفيذ خطط واشنطن، وحث وزير الدفاع ورئيس البلاد واشنطن بشكل مباشر على وقف التأجيج الهستيري، مشيرين إلى أنهما لا يشعران بخطر أي غزو من روسيا.
ومع ذلك، فإن هذه الأصوات المتعالية ليست سوى ثغاء الأغنام بينما تساق للمذبح. فالولايات المتحدة الأمريكية تحتاج إلى حرب في أوكرانيا لإسكات كل هذه الأصوات الأوروبية التي تطالب بالسلام والتعاون المستمر مع روسيا.
لهذا، لا ينبغي المبالغة في أهمية مقاومة الإجراءات المعادية لروسيا، أو ضد مشاركة أوروبا في العقوبات المفروضة عليها ضد روسيا.
فأوروبا الآن محرومة من سيادتها، ولا تزال محتلة من قبل القوات الأمريكية، وليست رقماً فاعلاً في السياسة العالمية. في الوقت الراهن، يمكن إهمال موقفها، وهو ما تفعله موسكو، ومخاطبة واشنطن مباشرة بإنذار نهائي.
من الواضح كذلك أنه في بداية الحرب العالمية، لن ينتصر الأقوى، بل ينتصر من يمكنه تحمل الألم لفترة أطول. فجميع القوى العالمية الكبرى ضعيفة داخلياً، وبغض النظر عن حجم القوات المسلحة، أو حجم الاقتصاد، ستواجه صدمة اقتصادية في حالة نشوب صراع عالمي.
لذلك، لا ينبغي الانتباه إلى عدد الدول الغربية المشاركة في مساع أو عقوبات معادية لروسيا. فهذه وحدة سطحية وهشّة، وسوف تنهار بمجرد أن يفقد الناس الدخل والدفء والكهرباء في منازلهم. ومشاركة أوروبا في "الهجوم الجديد على الشرق" هي فكرة انتحارية، وستنتهي بأي حال من الأحوال بفقدان سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على أوروبا.
فروسيا لم تكن لتقدم على إعلان إنذارها النهائي، إذا لم تكن متأكدة من انتصارها.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف